الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} قرأه الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة وهو ظاهر المعنى، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفاً على المجرور بالباء كما تقدم فيكون المعنى: وآمنا بأنا انتفى علمنا بما يراد بالذين في الأرض، أي الناس، أي لأنهم كانوا يسترقون علم ذلك فلما حرست السماء انقطع علمهم بذلك. هذا توجيه القراءة بفتح همزة {أنا} ومحاولة غير هذا تكلف. وهذه نتيجة ناتجة عن قولهم: {وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} [الجن: 9] الخ لأن ذلك السمع كان لمعرفة ما يجري به الأمر من الله للملائكة ومما يُخْبِرُهُمْ به مما يريد إعلامهم به فكانوا على علم من بعض ما يتلقفونه فلما منعوا السمع صاروا لا يعلمون شيئاً من ذلك فأخبروا إخوانهم بهذا عساهم أن يعتبروا بأسباب هذا التغير فيؤمنوا بالوحي الذي حرسه الله من أن يطلع عليه أحد قبل الذي يوحَى به إليه والذي يحمله إليه. فحاصل المعنى: إنا الآن لا ندري ماذا أريد بأهل الأرض من شر أو خير بعد أن كنا نتجسس الخبر في السماء. وهذا تمهيد لما سيقولونه من قوله: {وإنا منا الصالحون} [الجن: 11] ثم قولهم: {وإنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض} [الجن: 12] ثم قولهم: {وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به} إلى قوله: {فكانوا لجهنم حَطباً} [الجن: 13 15]. ومفعول {ندري} هو ما دل عليه الاستفهام بعده من قوله: {أشرّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً} وهو الذي علَّق فعل {ندري} عن العمل، والاستفهام حقيقي وعادة المعربين لمثله أن يقدروا مفعولاً يستخلص من الاستفهام تقديره: لا ندري جواب هذا الاستفهام، وذلك تقديرُ معنًى لا تقديرُ إعراب. هذا هو تفسير الآية على المعنى الأكمل وهي من قبيل قوله تعالى: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [الأحقاف: 9]. وليس المراد منها فيما نرى أنهم ينفون أن يعلموا ماذا أراد الله بهذه الشهب، فإن ذلك لا يناسب ما تقدم من أنهم آمنوا بالقرآن إذ قالوا: {إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به} [الجن: 1، 2] وقولهم: {فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً} [الجن: 9] فذلك صريح في أنهم يدرون أن الله أراد بمن في الأرض خيراً بهذا الدّين وبصرف الجن عن استراق السمع. وتكرير (إنّ) واسمها للتأكيد لكون هذا الخبر معرضاً لشك السامعين من الجن الذين لم يختبروا حراسة السماء. والرشَد: إصابة المقصود النافع وهو وسيلة للخير، فلهذا الاعتبار جعل مقابلاً للشر وأسند فعل إرادة الشر إلى المجهول ولم يسند إلى الله تعالى مع أن مقابله أسند إليه بقوله: {أم أراد بهم ربهم رشداً،} جرياً على واجب الأدب مع الله تعالى في تحاشي إسناد الشر إليه.
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن. وقراءة فتح الهمزة عطف على المجرور بالباء، أي آمنا بأنا منّا الصالحون، أي أيقنَّا بذلك وكنا في جهالة عن ذلك. ظهرت عليهم آثار التوفيق فعلموا أنهم أصبحوا فريقين فريق صالحون وفريق ليسوا بصالحين، وهم يعنون بالصالحين أنفسهم وبمن دون الصلاح بقية نوعهم، فلما قاموا مقام دعوة إخوانهم إلى اتباع طريق الخير لم يصارحوهم بنسبتهم إلى الإِفساد بل ألهموا وقالوا منا الصالحون، ثم تلطفوا فقالوا: ومنا دون ذلك، الصادق بمراتب متفاوتة في الشر والفساد ليتطلب المخاطبون دلائل التمييز بين الفريقين، على أنهم تركوا لهم احتمال أن يُعنَى بالصالحين الكاملون في الصلاح فيكون المعني بمن دون ذلك من هم دون مرتبة الكمال في الصلاح، وهذا من بليغ العبارات في الدعوة والإِرشاد إلى الخير. و {دونَ}: اسم بمعنى (تحت)، وهو ضد فوق ولذلك كثر نصبه على الظرفية المكانية، أي في مكان منحط عن الصالحين. والتقدير: ومنا فريق في مرتبة دونهم. وظرفية {دون} مجازية. ووقع الظرف هنا ظرفاً مستقراً في محل الصفة لموصوف محذوف تقديره: فريق، كقوله تعالى: {وما منا إلاّ له مقام معلوم} [الصافات: 164] ويطَّرد حذف الموصوف إذا كان بعضَ اسم مجرور بحرف (مِن) مقدممٍ عليه وكانت الصفة ظرفاً كما هنا، أو جملة كقول العرب: مِنَّا ظَعَن ومِنَّا أقام. وقوله: {كنا طرائق قِدَداً} تشبيه بليغ، شبه تخالف الأحوال والعقائد بالطرائق تفضي كل واحدة منها إلى مكان لا تفضي إليه الأخرى. و {طرائق}: جمع طريقة، والطريقة هي الطريق، ولعلها تختص بالطريق الواسع الواضح لأنّ التاء للتأكيد مثل دار ودَارة، ومثل مَقام ومقَامة، ولذلك شبه بها أفلاك الكواكب في قوله تعالى {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} [المؤمنون: 17] ووصفت بالمثلى في قوله: {ويَذْهبَا بطريقتكم المُثلى} [طه: 63]. ووصف {طرائق} ب {قِدداً،} وهو اسم جمع قِدَّة بكسر القاف وتشديد الدال والقدة: القطعة من جلد ونحوه المقطوعة طولاً كالسير، شبهت الطرائق في كثرتها بالقِدد المقتطعة من الجلد يقطعها صانع حبال القِدّ كانوا يقيدون بها الأسرى. والمعنى: أنهم يدعون إخوتهم إلى وحدة الاعتقاد باقتفاء هدى الإِسلام، فالخبر مستعمل في التعريض بذم الاختلاف بين القوم وأن على القوم أن يتحدوا ويتطلبوا الحق ليكون اتحادهم على الحق. وليس المقصود منه فائدة الخبر لأن المخاطبين يعلمون ذلك، والتوكيد ب (إنّ) متوجه إلى المعنى التعريضي.
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)} قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر همزة {وإنا}. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفاً على المجرور في قوله: {فآمنا به} [الجن: 2]. والتقدير: وءامنا بأن لن نعجز الله في الأرض. وذكر فعل {ظننا} تأكيد لفظي لفعل «آمنا» المقدر بحرف العطف، لأن الإِيمان يقين وأُطلق الظن هنا على اليقين وهو إطلاق كثير. لما كان شأن الصلاح أن يكون مرضياً عند الله تعالى وشأن ضده بعكس ذلك كما قال تعالى: {والله لا يحب الفساد} [البقرة: 205] أعقبوا لتعريض الإِقلاع عن ضد الصلاح بما يقتضي أن الله قد أعد لغير الصالحين عقاباً فأيقنوا أن عقاب الله لا يُفْلِت منه أحدٌ استحقه. وقدموه على الأمر بالإِيمان الذي في قوله: {وإنّا لمّا سمعنا الهُدى} [الجن: 13] الآية، لأن دَرْءَ المفاسد مقدم على جلب المصالح والتخلية مقدمة على التحْلية، وقد استفادوا علم ذلك مما سمعوا من القرآن ولم يكونوا يعلمون ذلك من قبل إذ لم يكونوا مخاطبين بتعليم في أصول العقائد، فلما ألهمهم الله لاستماع القرآن وعلموا أصول العقائد حذروا إخوانهم اعتقادَ الشرك ووصفَ الله بما لا يليق به لأن الاعتقاد الباطل لا يقره الإِدراك المستقيم بعد تنبيهه لبطلانه، وقد جعل الله هذا النفر من الجن نذيراً لإِخوانهم ومرشداً إلى الحق الذي أرشدهم إليه القرآن، وهذا لا يقتضي أن الجن مكلفون بشرائع الإِسلام. وأما قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإِنس لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف: 179] الآية فقد أشار إلى أن عقابهم على الكفر والإِشراك، أو أريد بالجن الشياطين فإن الشياطين من جنس الجن. والإِعجاز: جعل الغير عاجزاً أي غير قادر عن أمر بذكر مع ما يدل على العجز وهو هنا كناية عن الإِفلات والنجاة كقول إياس بن قبيصة الطائي: ألم تر أن الأرض رحْب فسيحة *** فهل تُعْجِزَنِّي بُقعة من بِقاعها أي لا تفوتني ولا تخرج عن مُكْنتي. وذِكْر {في الأرض} يؤذن بأن المراد بالهرب في قوله: {ولن نعجزه هرباً} الهربُ من الرجم بالشهب، أي لا تطمعوا أن تسترقوا السمع فإن رجم الشهب في السماء لا يخطئكم، فابتدأوا الإِنذار من عذاب الدنيا استنزالاً لقومهم. ويجوز أن يكون {نعجز} الأول بمعنى مغالب كقوله تعالى: {فما هم بمعجزين} [النحل: 46] أي لا يغلبون قدرتنا، ويكون {في الأرض} مقصوداً به تعميم الأمكنة كقوله تعالى: {وما أنتم بمعجزين في الأرض} [الشورى: 31]، أي في مكان كنتم. والمراد: أنا لا نَغلب الله بالقوة. ويكون {نعجز} الثاني، بمعنى الإِفلات ولذلك بُيّن ب {هرباً}، والهرب مجاز في الانفلات مما أراد الله إلحاقه بهم من الرجم والاحتراق. والظن هنا مستعمل في اليقين بقرينة تأكيد المظنون بحرف {لن} الدال على تأبيد النفي وتأكيده.
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)} قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفاً على المجرور في قوله: {فآمنا به} [الجن: 2]. والمقصود بالعطف قوله: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً}، وأما جملة {لما سمعنا الهدى ءامنَّا به} فتوطئة لذلك. بعد أن ذكروا قومهم بعذاب الله في الدنيا أو اطمأنوا بتذكُّر ذلك في نفوسهم، عادوا إلى ترغيبهم في الإِيمان بالله وحده، وتحذيرهم من الكفر بطريق المفهوم. وأريد بالهدى القرآن إذ هو المسموع لهم ووصفوه بالهدى للمبالغة في أنه هاد. ومعنى {يؤمن بربه،} أي بوجوده وانفراده بالإِلهية كما يشعر به إحضار اسمه بعنوان الرب إذ الرب هو الخالق فما لا يخلق لا يعبد. وجملة {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً} يجوز أن تكون من القول المحكي عن الجن. ويجوز أن تكون كلاماً من الله موجهاً للمشركين وهي معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. والبخس: الغبن في الأجر ونحوه. والرهَق: الإِهانة، أي لا يخشى أن يبخس في الجزاء على إيمانه ولا أن يهان. وفهم منه أن من لا يؤمن يُهان بالعذاب. والخلاف في كسر همزة {إنا} وفتحها كالخلاف في التي قبلها. وجملة {فلا يخاف بخساً ولا رهقاً} جواب لِشرط (مَن) جعلت بصورة الجملة الاسمية فقرنت بالفاء مع أن ما بعد الفاء فعل، وشأن جواب الشرط أن لا يقترن بالفاء إلاّ إذا كان غيرَ صالح لأن يكون فعل الشرط فكان اقترانه بالفاء وهو فعل مضارع مشيراً إلى إرادة جعله خبر مبتدأ محذوف بحيث تكون الجملة اسمية، والاسمية تقترن بالفاء إذا وقعت جواب شرط، فكان التقدير هنا: فهو لا يخاف ليكون دَالاً على تحقيق سلامته من خوف البخس والرهق، وليدل عل اختصاصه بذلك دون غيره الذي لا يؤمن بربه، فتقدير المسند إليه قبل الخبر الفعلي يقتضي التخصيص تارة والتقوي أخرى وقد يجتمعان كما تقدم في قوله تعالى: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15]. واجتمعا هنا كما أشار إليه في «الكشاف» بقوله: فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره. وكلام «الكشاف» اقتصر على بيان مزية الجملة الاسمية وهو يقتضي توجيه العدول عن جزم الفعل لأجل ذلك. وقد نقول: إن العدول عن تجريد الفعل من الفاء وعن جزمه لدفع إيهام أن تكون {لا} ناهية، فهذا العدول صراحة في إرادة الوعد دون احتمال إرادة النهي. وفي «شرح الدماميني على التسهيل»: أن جواب الشرط إذا كان فعلاً منفياً ب (لا) يجوز الاقتران بالفاء وتركه. ولم أره لغيره وكلام «الكشاف» يقتضي أن الاقتران بالفاء واجب إلاّ إذا قصدت مزية أخرى.
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن وهو عطف على المجرور بالباء. والمقصود بالعطف قوله: {فمن أسلم فأولئك تحَرَّوْا رشداً} وما قبله توطئة له، أي أصبحنا بعد سماع القرآن منا المسلمون، أي الذين اتبعوا ما جاء به الإِسلام مما يليق بحالهم ومنا القاسطون، أي الكفارون المعرضون وهذا تفصيل لقولهم: {وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك} [الجن: 11] لأن فيه تصريحاً بأن دون ذلك هو ضد الصلاح. والظاهر أن من منتهى ما حكي عن الجن من المدرَكات التي عبر عنها بالقول وما عطف عليه. الظاهر أن هذا خارج عن الكلام المحكي عن الجن، وأنه كلام من جانب الله تعالى لموعظة المشركين من الناس فهو في معنى التذييل. وإنما قرن بالفاء لتفريعه على القصة لاستخلاص العبرة منها، فالتفريع تفريع كلام على كلام وليس تفريع معنى الكلام على معنى الكلام الذي قبله. والتحري: طلب الحَرَا بفتحتين مقصوراً واويّاً، وهو الشيء الذي ينبغي أن يفعل، يقال: بالحرّي أن تفعل كذا، وأحْرى أن تفعل. والرشَد: الهدى والصواب، وتنوينه للتعظيم. والمعنى: أن من آمن بالله فقد توخى سبب النجاة وما يحصل به الثواب لأن الرشد سبب ذلك. والقاسط: اسم فاعل قسط من باب ضَرب قَسْطاً بفتح القاف وقسوطاً بضمها، أي جار فهو كالظلم يراد به ظلم المرء نفسه بالإِشراك. وفي «الكشاف»: أن الحجاج قال لسعيد بن جبير حين أراد قتله ما تقول فيَّ؟ قال: قَاسط عَادِل، فقال القومُ: مَا أحسَنَ ما قالَ حسبوا أنه وصفه بالقِسط (بكسر القاف) والعدل، فقال الحجاج: يا جَهلة إنه سمّاني ظالماً مشركاً وتلا لهم قوله تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} وقولَه تعالى: {ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون} [الأنعام: 1] اه. وشبه حلول الكافرين في جهنم بحلول الحطب في النار على طريقة التمليح والتحقير، أي هم لجهلهم كالحطب الذي لا يعقل كقوله تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} [البقرة: 24]. وإقحام فعل (كانوا) لتحقيق مصيرهم إلى النّار حتى كأنهم كانوا كذلك من زمن مضى.
{وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} اتفق القراء العشرة على فتح همزة: {أن لو استقاموا}، فجملة {أن لوِ استقاموا} معطوفة على جملة {أنه استمع نفر من الجن} [الجن: 1]، والواو من الحكاية لا من المحكي، فمضمونها شأن ثاننٍ مما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمره الله أن يقوله للناس. والتقدير: وأوحي إليّ أنه لو استقام القاسطون فأسلموا لما أصابهم الله بإمساك الغيث. و {أن} مخففة من الثقيلة، وجيء ب {أن} المفتوحة الهمزة لأن ما بعدها معمول لفعل {أوحي} [الجن: 1] فهو في تأويل المصدر، واسمها محذوف وهو ضمير الشأن وخبره {لو استقاموا} إلى آخر الجملة. وسبك الكلام: أوحي إليَّ إسقاءُ الله إياهم ماء في فرض استقامتهم. وضمير {استقاموا} يجوز أن يعود إلى القاسطين بدون اعتبار القيد بأنهم من الجن وهو من عود الضمير إلى اللفظ مجرداً عن مَا صْدَقِه كقولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف درهم آخر. ويجوز أن يكون عائداً إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معروف من المقام إذ السورة مسوقة للتنبيه على عناد المشركين وطعنهم في القرآن، فضمير {استقاموا} عائد إلى المشركين، وذلك كثير في ضمائر الغيبة التي في القرآن، وكذلك أسماء الإِشارة كما تنبهنا إليه ونبهنا عليه، ولا يناسب أن يعاد على القاسطين من الجن إذ لا علاقة للجن بشرب الماء. والاستقامة على الطريقة: استقامة السير في الطريق وهي السير على بصير بالطريق دون اعوجاج ولا اغترار ببنيات الطريق. و {الطريقة}: الطريق: ولعلها خاصة بالطريق الواسع الواضح كما تقدم آنفاً في قوله {كُنَّا طرائق قِدداً} [الجن: 11]. والاستقامة على الطريقة تمثيل لهيئة المتصف بالسلوك الصالح والاعتقاد الحق بهيئة السائر سيراً مستقيماً على طريقة، ولذلك فالتعريف في {الطريقة} للجنس لا للعهد. وقوله: {لأسقيناهم ماء غدقاً:} وعد بجزاء على الاستقامة في الدّين جزاءً حسناً في الدنيا يكون عنواناً على رضى الله تعالى وبشارة بثواب الآخرة قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. وفي هذا إنذار بأنه يوشك أن يمسك عنهم المطر فيقعوا في القحط والجوع وهو ما حدث عليهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ودعائه عليهم بسنين كَسِنِي يوسف فإنه دعا بذلك في المدينة في القنوت كما في حديث «الصحيحين» عن أبي هريرة وقد بينا ذلك في سورة الدخان. وقد كانوا يوم نزول هذه الآية في بحبوحة من العيش وفي نخيل وجنات فكان جَعْل ترتُّببِ الإِسقاء على الاستقامة على الطريقة كما اقتضاه الشرط بحرف {لو} مشيراً إلى أن المراد: لأدَمْنا عليهم الإِسقاء بالماء الغَذَق، وإلى أنهم ليسوا بسالكين سبيل الاستقامة فيوشك أن يُمسك عنهم الري ففي هذا إنذار بأنهم إن استمروا على اعوجاج الطريقة أمسك عنهم الماء. وبذلك يتناسب التعليل بالإِفتان في قوله: {لنفتنهم فيه} مع الجملة السابقة إذ يكون تعليلاً لما تضمنَه معنى إدامة الإِسقاء فإنه تعليل للإِسقاء الموجود حين نزول الآية وليس تعليلاً للإِسقاء المفروض في جواب {لو} لأن جواب {لو} منتففٍ فلا يصلح لأن يُعلل به، وإنما هم مفتونون بما هم فيه من النعمة فأراد الله أن يوقظ قلوبهم بأن استمرار النعمة عليهم فتنة لهم فلا تغرنهم. فلام التعليل في قوله: {لنفتنهم فيه} ظرف مستقر في موضع الحال من {ماء غدقاً} وهو الماء الجاري لهم في العيون ومن السماء تحت جناتهم وفي زروعهم فهي حال مقارنة. وبهذا التفسير تزول الحيرة في استخلاص معنى الآية وتعليلها. والغدَق: بفتح الغين المعجمة وفتح الدال الماء الغزير الكثير. وجملة {لِنَفْتِنَهم فيه} إدماج فهي معترضة بين جملة {وأن لو استقاموا على الطريقة} الخ وبين جملة {ومن يعرض عن ذكر ربّه} الخ. ثم أكدت الكناية عن الإِنذار المأخوذة من قوله: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم} الآية، بصريح الإِنذار بقوله: {ومن يعرض عن ذكر ربّه نسلكه عذاباً صعداً،} أي فإن أعرضوا انقلب حالهم إلى العذاب فسلكنا بهم مسالك العذاب. والسَّلك: حقيقته الإِدخال، وفعله قاصر ومتعد، يقال: سلكه فسلك، قال الأعشى: كما سَلكَ السِّكيَّ في الباب فَيْتق *** أي أدخل المِسمار في الباب نَجَّارٌ. وتقدم عند قوله تعالى: {كذلك نسلكه في قلوب المجرمين} في سورة الحجر (12). واستعمل السَلك هنا في معنى شدة وقوع الفعل على طريق الاستعارة وهي استعارة عزيزة. والمعنى: نعذبه عذاباً لا مصرف عنه. وانتصب عذاباً} على نزع الخافض وهو حرف الظرفية، وهي ظرفية مجازية تدل على أن العذاب إذا حلّ به يحيط به إحاطة الظرف بالمظروف. والعدول عن الإِضمار إلى الإِظهار في قوله: {عن ذكر ربّه} دون أن يقول: عن ذكرنا، أو عن ذكري، لاقتضاء الحال الإِيماءَ إلى وجه بناء الخبر فإن المعرض عن ربّه الذي خلقه وأنشأه ودبره حقيق بأن يسلك عذاباً صعداً. والصّعَد: الشاق الغالِبُ، وكأنه جاءٍ من مصدر صَعد، كفرح إذا علا وارتفع، أي صَعِد على مفعوله وغلبه، كما يقال: عَلاَه بمعنى تمكن منه، {وأن لا تعلوا على الله} [الدخان: 19]. وقرأ الجمهور {نسلكه} بنون العظمة ففيه التفات. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {يسلكه} بياء الغائب فالضمير المستتر يعود إلى ربّه.
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} اتفق القراء العشرة على فتح الهمزة في {وأن المساجد لله} فهي معطوفة على مرفوع {أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن} [الجن: 1]، ومضمونها مما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأُمر بأن يقوله. والمعنى: قل أوحي إلي أن المساجد لله، فالمصدر المنسبك مع {أنَّ} واسمها وخبرها نائب فاعل {أُوحي} [الجن: 1]. والتقدير: أوحي إلي اختصاص المساجد بالله، أي بعبادته لأن بناءها إنما كان ليعبد الله فيها، وهي معالم التوحيد. وعلى هذا الوجه حمل سيبويه الآية وتبعه أبو علي في «الحُجة». وذهب الخليل أن الكلام على حذف لام جر قبل {أنّ}، فالمجرور مقدم على متعلَّقه للاهتمام. والتقدير: ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً. واللام في قوله {لله} للاستحقاق، أي الله مستحقها دون الأصنام والأوثان فمن وضع الأصنام في مساجد الله فقد اعتدى على الله. والمقصود هنا هو المسجد الحرام لأن المشركين كانوا وضعوا فيه الأصنام والأنصاب وجعلوا الصنم (هُبَل) على سطح الكعبة، قال تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها} [البقرة: 114] يعني بذلك المشركين من قريش. وهذا توبيخ للمشركين على اعتدائهم على حق الله وتصرفهم فيما ليس لهم أن يغيروه قال تعالى: {وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه} [الأنفال: 34]، وإنما عبر في هذه الآية وفي آية {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} [البقرة: 114] بلفظ {مساجد} ليدخل الذين يفعلون مثل فعلهم معهم في هذا الوعيد ممن شاكلهم ممن غيّروا المساجد، أو لتعظيم المسجد الحرام، كما جُمع {رسلي} في قوله: {فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} [سبأ: 45]، على تقدير أن يكون ضمير {كذبوا عائداً إلى الذين كفروا في قوله: {وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلاّ سحر مبين} [سبأ: 43] أي كذبوا رسولي. ومنه قوله تعالى: {وقوم نوح لما كذَّبوا الرسل أغرقناهم} [الفرقان: 37] يريد نوحاً، وهو أول رسول فهو المقصود بالجمع. وفرع على اختصاص كون المساجد بالله النهي عن أن يدعوا مع الله أحداً، وهذا إلزام لهم بالتوحيد بطريق القول بالموجَب لأنهم كانوا يزعمون أنهم أهل بيت الله فعبادتهم غير الله منافية لزعمهم ذلك.
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)} قرأ نافع وحده وأبو بكر عن عاصم بكسر الهمزة. وقرأه بقية العشرة في رواياتهم المشهورة بالفتح. ومآل القراءتين سواء في كون هذا خارجاً عما صدر عن الجن وفي كونه مما أوحى الله به. فكَسْر الهمزة على عطف الجملة على جملة {أُوحي إليَّ} [الجن: 1]، والتقدير: وقل إِنه لما قام عبد الله يدعوه لأن همزة (إِنَّ) إذا وقعت في محكي بالقول تكسر، ولا يليق أن يجعل من حكاية مقالة الجن لأن ذلك قد انقضى وتباعد ونُقَل الكلام إلى أغراض أخرى ابتداء من قوله: {وأن المساجد لله} [الجن: 18]. وأما الفتح فعلى اعتباره معطوفاً على جملة {أنه استمع نفر} [الجن: 1]، أيْ وأوحي إلي أنه لما قام عبد الله، أي أوحى الله إليَّ اقتراب المشركين من أن يكونوا لُبَداً على عبد الله لما قام يدعو ربَّه. وضمير {إنه} ضمير الشأن وجملة {لما قام عبد الله} إلى آخرها خبره. وضمير {كادوا يكونون} عائدان إلى المشركين المنبئ عنهم المقام غيبة وخطاباً ابتداء من قوله: {وأن لو استقاموا على الطريقة} [الجن: 16] إلى قوله: {فلا تدعوا مع الله أحداً} [الجن: 18]. و {عبد الله} هو محمد صلى الله عليه وسلم وضع الاسم الظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال: وأنه لما قمتَ تدعو الله كادوا يكونون عليك، أو لما قمتُ أدعو الله، كادوا يكونون عليَّ. ولكن عدل إلى الاسم الظاهر لقصد تكريم النبي صلى الله عليه وسلم بوصف {عبد الله} لما في هذه الإِضافة من التشريف مع وصف {عبدِ} كما تقدم غير مرة منها عند قوله: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1]. {ولِبَداً} بكسر اللام وفتح الموحدة اسم جمع: لِبْدة، وهي ما تلبد بعضه على بعض، ومنه لِبْدَة الأسد للشعر المتراكم في رقبته. والكلام على التشبيه، أي كاد المشركون يكونون مثل اللَبد متراصين مقتربين منه يستمعون قراءته ودعوته إلى توحيد الله. وهو التفاف غيظ وغضب وهممٍ بالأذى كما يقال: تأَلبوا عليه. ومعنى {قام}: اجتهد في الدعوة إلى الله، كقوله تعالى: {إذ قاموا فقالوا ربّنا ربّ السماوات والأرض} في سورة الكهف (14)، وقال النابغة: بأن حِصنا وحيّاً من بني أسد *** قَاموا فقالوا حمانا غير مقروب وقد تقدم عند قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة} في أول سورة البقرة (3). ومعنى قيام النبي إعلانه بالدعوة وظهور دعوته قال جَزْءٌ بنُ كليب الفقعسي: فلا تبغينها يا بنَ كُوز فإنه *** غذَا الناسُ مُذ قام النبي الجواريا أي قام يعبدُ الله وحده، كما دل عليه بيانه بقوله بعده: قال إنما أدعو ربّي ولا أشرك به أحداً}، فهم لما لم يعتادوا دعاء غير الأصنام تجمعوا لهذا الحدث العظيم عليهم وهو دعاء محمد صلى الله عليه وسلم لله تعالى. وجملة {قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً} بيان لجملة {يدعوه}. وقرأ الجمهور {قال} بصيغة الماضي. وقرأه حمزة وعاصم وأبو جعفر {قل} بدون ألف على صيغة الأمر، فتكون الجملة استئنافاً. والتقدير: أوحي إلي أنه لما قام عبد الله إلى آخره قل إنما أدعو ربي، فهو من تمام ما أوحي به إليه. و {إنما أدعو ربي}، يفيد قصراً، أي لا أدعو غيره، أي لا أعبد غيره دونه. وعطف عليه {ولا أشرك به أحداً} تأكيداً لمفهوم القصر، وأصله أن لا يعطف فعطفه لمجرد التشريك للعناية باستقلاله بالإِبلاغ.
{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)} هذا استئناف ابتدائي. وهو انتقال من ذكر ما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى توجيه خطاب مستأنف إليه، فبعد أن حكي في هذه السورة ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مما خفي عليه من الشؤون المتعلقة به من اتِّباع متابعين وإعراض معرضين، انتقل إلى تلقينه ما يُرد على الذين أظهروا له العناد والتورك. ويجوز أن يكون {قل إني لا أملك} الخ، تكريراً لجملة {قل إنما أدعو ربي} [الجن: 20] على قراءة حمزة وعاصم وأبي جعفر. والضر: إشارة إلى ما يتوركون به من طلب إنجاز ما يتوعدهم به من النصر عليهم. وقوله: {ولا رشداً} تتميم. وفي الكلام احتباك لأن الضر يقابله النفع، والرشد يقابله الضلال، فالتقدير: لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ولا ضلالاً ولا رشداً. والرَّشَد بفتحتين: مصدر رشد، والرُّشْد، بضم فسكون: الاسم، وهو معرفة الصواب، وقد تقدم قريباً في قوله: {يهدي إلى الرشد} [الجن: 2]. وتركيب {لا أملك لكم} معناه لا أقدر قدرة لأجلكم على ضرّ ولا نفع، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وما أملك لك من الله من شيء} في سورة الممتحنة (4) وتقدم أيضاً في سورة الأعراف. وجملتا قل إني لن يجيرني} إلى {ملتحداً} معترضتان بين المستثنى منه والمستثنى، وهو اعتراضُ ردَ لما يحاولونه منه أن يترك ما يؤذيهم فلا يذكر القرآنُ إبطال معتقدهم وتحقير أصنامهم، قال تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائتتِ بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلاّ ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} [يونس: 15]. والملتحد: اسم مكان الالتحاد، والالتحاد: المبالغة في اللحد، وهو العدول إلى مكان غير الذي هو فيه، والأكثر أن يطلق ذلك على اللجأ، أي العياذ بمكان يعصمه. والمعنى: لَن أجد مكاناً يعصمني. و {من دونه} حال من {ملتحداً}، أي ملتحداً كائناً من دون الله أي بعيداً عن الله غير داخل من ملكوته، فإن الملتحد مكان فلما وصف بأنه من دون الله كان المعنى أنه مكان من غير الأمكنة التي في ملك الله، وذلك متعذر، ولهذا جاء لنفي وجدانه حرف {لن} الدال على تأييد النفي. و {مِن} في قوله: {مِن دونه} مزيدة جارة للظرف وهو (دون). وقوله: {إلاّ بلاغاً من الله ورسالاته} استثناء منقطع من {ضرَّاً} و{رشداً}، وليس متصلاً لأن الضر والرشد المنفيين في قوله: {لا أملك لكم ضراً ولا رشداً} هما الضر والرشد الواقعان في النفس بالإلجاء. ويجوز أن يكون مع ذلك استثناء من {ملتحداً}، أي بتأويل {ملتحداً} بمعنى مخلص أو مأمن. وهذا الاستثناء من أسلوب تأكيد الشيء بما يشبه ضده. والبلاغ: اسم مصدر بلغ، أي أوصل الحديث أو الكلام، ويطلق على الكلام المبلغ من إطلاق المصدر على المفعول مثل {هذا خلق الله} [لقمان: 11]. و {مِن} ابتدائية صفة (بلاغ)، أي بلاغاً كائناً من جانب الله، أي إلاّ كلاماً أبلغه من القرآن الموحى من الله. و {رسالاته}: جمع رسالة، وهي ما يرسل من كلام أو كتاب فالرسالات بلاغ خاص بألفاظ مخصوصة، فالمراد منها هنا تبليغ القرآن. لما كان قوله: {قال إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً} [الجن: 20] إلى هنا كلاماً متضمناً أنهم أشركوا وعاندوا الرسول صلى الله عليه وسلم حينَ دعاهم إلى التوحيد واقترحوا عليه ما توهموه تعجيزاً له من ضروب الاقتراح، أعقب ذلك بتهديدهم ووعيدهم بأنهم إن داموا على عصيان الله ورسوله سيلقون نار جهنم لأن كل من يعصي الله ورسوله كانت له نار جهنم. و {مَن} شرطية وجواب الشرط قوله: {فإن له نار جهنم.
{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)} كانوا إذا سمعوا آيات الوعد بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في الدنيا والآخرة، وآيات الوعيد للمشركين بالانهزام وعذاب الآخرة وعذاب الدنيا استسخروا من ذلك وقالوا: {وما نحن بمعذبين} [سبأ: 35]، ويقولون: {متى هذا الفتح إن كنتم صادقين} [السجدة: 28]، ويقولون: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يونس: 48]، وقالوا: {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} [ص: 16]، فهم مغرورون بالاستدراج والإِمهال فلذلك عقب وعيدهم بالغاية المفادة من {حَتى}، فالغاية هنا متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام من سخرية الكفار من الوعيد واستضعافهم المسلمين في العَدد والعُدد فإن ذلك يفهم منه أنهم لا يزالون يحسبون أنهم غالبون فائزون حتى إذا رأوا ما يوعدون تحققوا إخفاق آمالهم. و {حتى} هنا ابتدائية وكلما دخلت {حتى} في جملة مفتتحة ب {إذا} ف {حتى} للابتداء وما بعدها جملة ابتدائية. وذهب الأخفش وابن مالك إلى أن {حتى} في مثله جارة وأن {إذا} في محل جرّ وليس ببعيد. واعلم أن {حتى} لا يفارقها معنى الغاية كيفما كان عمل {حتى}. و {إذَا} اسم زمان للمستقبل مضمن معنى الشرط وهو في محل نصب بالفعل الذي في جوابه وهو {فسيعلمون}. وعلى رأي الأخفش وابن مالك {إذا} محل جر ب {حتى}. واقتران جملة {سيعلمون} بالفاء دليل على أن {إذا} ضُمّن معنى الشرط، واقتران الجواب بسين الاستقبال يصرف الفعل الماضي بعد {إذا} إلى زمن الاستقبال. وجيء بالجملة المضاف إليها {إذا} فعلاً ماضياً للتنبيه على تحقيق وقوعه. وفعل {سيعلمون} معلق عن العمل بوقوع الاستفهام بعده وهو استعمال كثير في التعليق لأن الاستفهام بما فيه من الإبهام يكون كناية عن الغرابة بحيث يسأل الناس عن تعيين الشيء بعد البحث عنه. وضعفُ الناصر وهَن لهم من جهة وهَن أنصارهم، وقلة العدد وهَنٌ لهم من جانب أنفسهم، وهذا وعيد لهم بخيبة غرورهم بالأمن من غلب المسلمين في الدنيا فإنهم كانوا يقولون: {نحن جميع منتصر} [القمر: 44]. وقالوا: {نحن أكثر أموالاً وأولاداً} [سبأ: 35].
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} كان المشركون يكثرون أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم {متى هذا الوعد} [النمل: 71]، و{عن الساعة أيان مرساها} [الأعراف: 187]، وتكررت نسبة ذلك إليهم في القرآن، فلما قال الله تعالى: {حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً} [الجن: 24] الآية علِم أنهم سيعيدون ما اعتادوا قوله من السؤال عن وقت حلول الوعيد فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعيد عليهم ما سبق من جوابه. فجملة {قل إن أدري أقريب ما توعدون} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن القول المأمور بأن يقوله جواب لسؤالهم المقدر. والأمد: الغاية وأصله في الأمكنة. ومنه قول ابن عمر في حديث «الصحيحين»: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقَ بين الخيل التي لم تُضَمَّر وجعل أمدَها ثنيةَ الوداع " (أي غاية المسابقة). ويستعار الأمد لمدة من الزمان معينة قال تعالى: {فطال عليهم الأمد} [الحديد: 16] وهو كذلك هنا. ومقابلته ب«قريب» يفيد أن المعنى أم يجعل له أمداً بعيداً. وجملة {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً} في موضع العلة لجملة {إن أدري أقريب ما توعدون} الآية. و {عالم الغيب}: خبر مبتدأ محذوف، أي هو عالم الغيب والضمير المحذوف عائد إلى قوله {ربي}. وهذا الحذف من قبيل حذف المسند إليه حذفاً اتُّبع فيه الاستعمال إذا كان الكلام قد اشتمل على ذكر المسند إليه وصفاته كما نبه عليه السكاكي في «المفتاح». و {الغيب}: مصدر غاب إذا استتر وخفي عن الأنظار وتعريفه تعريف الجنس. وإضافة صفة {عالم} إلى {الغيب} تفيد العلم بكل الحقائق المغيبة سواء كانت ماهيات أو أفراداً فيشمل المعنى المصدري للغيب مثل علم الله بذاته وصفاته، ويشمل الأمور الغائبة بذاتها مثل الملائكة والجن. ويشمل الذوات المغيبة عن علم الناس مثل الوقائع المستقبلة التي يخبر عنها أو التي لا يخبر عنها، فإيثار المصدر هنا لأنه أشمل لإِحاطة علم الله بجميع ذلك. وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} في سورة البقرة (3). وتعريف المسند مع تعريف المسند إليه المقدر يفيد القصر، أي هو عالم الغيب لا أنا. وفرع على معنى تخصيص الله تعالى بعلم الغيب جملة فلا يُظْهر على غيبه أحداً}، فالفاء لتفريع حكم على حكم والحكم المفرع إتمام للتعليل وتفصيل لأحوال عدم الاطلاع على غيبه. ومعنى {لا يظهر على غيبه أحداً}: لا يُطلع ولا ينبئ به، وهو أقوى من يطلع لأن {يظهر} جاء من الظهور وهو المشاهدة ولتضمينه معنى: يطلع، عدي بحرف {على}. ووقوع الفعل في حيّز النفي يفيد العموم، وكذلك وقوع مفعوله وهو نكرة في حيّزه يفيد العموم. وحرف {على} مستعمل في التمكن من الاطلاع على الغيب وهو كقوله تعالى {وأظهره الله عليه} [التحريم: 3] فهو استعلاء مجازي. واستثنى من هذا النفي من ارتضاه ليطلعه على بعض الغيب، أي على غيب أراد الله إظهاره من الوحي فإنه من غيب الله، وكذلك ما أراد الله أن يؤيد به رسوله صلى الله عليه وسلم من إِخبار بما سيحدث أو إطلاع على ضمائر بعض الناس. فقوله: {ارتضى} مستثنى من عموم {أحداً}. والتقدير: إلاّ أحداً ارتضاه، أي اختاره للاطلاع على شيء من الغيب لحكمة أرادها الله تعالى. والإِتيان بالموصول والصلة في قوله: {إلاّ مَن ارتضَى مِن رسول} لقصد ما تؤذن به الصلة من الإِيماء إلى تعليل الخبر، أي يطلع الله بعض رسله لأجل ما أراده الله من الرسالة إلى النّاس، فيُعْلم من هذا الإِيمان أن الغيب الذي يطلع الله عليه الرسل هو من نوع ما له تعلق بالرسالة، وهو غيب ما أراد الله إبلاغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو أن يفعلوه، وما له تعلق بذلك من الوعد والوعيد من أمور الآخرة، أو أمور الدنيا، وما يؤيد به الرسل عن الإِخبار بأمور مغيبة كقوله تعالى: {غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} [الروم: 24]. والمراد بهذا الإِطلاعُ المحقق المفيد علماً كعلم المشاهدة. فلا تشمل الآية ما قد يحصل لبعض الصالحين من شرح صدر بالرؤيا الصادقة، ففي الحديث: «الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوءة، أو بالإِلهام» قال النبي صلى الله عليه وسلم «قد كان يكون في الأمم قبلكم محدِّثون فإن يَكُنْ في أمتِي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم» رواه مسلم. قال مسلم: قال ابن وهب: تفسير محدثون: ملهِمون. وقد قال مالك في الرؤيا الحسنة: أنها تسرُّ ولا تغرُّ، يريد لأنها قد يقع الخطأ في تأويلها. و {مِن رسول} بيان لإِبهام {مَنْ} الموصولة، فدل على أن مَا صْدَقَ {مَن} جماعةٌ من الرسل، أي إلاّ الرسل الذين ارتضاهم، أي اصطفاهم. وشمل {رسول} كلّ مرسل من الله تعالى فيشمل الملائكة المرسلين إلى الرسل بإبلاغ وحي إليهم مثل جبريل عليه السلام. وشمل الرسل من البشر المرسلين إلى الناس بإبلاغ أمر الله تعالى إليهم من شريعة أو غيرها مما به صلاحهم. وهنا أربعة ضمائر غيبة: الأول ضمير {فإنه} وهو عائد إلى الله تعالى. والثاني الضمير المستتِر في {يسلك} وهو لا محالة عائد إلى الله تعالى كما عاد إليه ضمير {فإنه}. والثالث والرابع ضميرَا {من بين يديه ومن خلفه}، وهما عائدان إلى {رسول} أي فإن الله يسلك أي يرسل للرسول رصَداً من بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خلفه رصداً، أي ملائكة يحفظون الرسول صلى الله عليه وسلم من إلقاء الشياطين إليه ما يخلط عليه ما أطلعه الله عليه من غيبه. والسّلْك حقيقته: الإِدخال كما في قوله تعالى: {كذلك نسْلكه في قلوب المجرمين} في سورة الحجر (12). وأطلق السَّلك على الإِيصال المباشر تشبيهاً له بالدخول في الشيء بحيث لا مصرف له عنه كما تقدم آنفاً في قوله: {ومن يعرض عن ذكر ربه نسلكه عذاباً صعَدَاً} [الجن: 17] أي يرسل إليه ملائكة متجهين إليه لا يبتعدون عنه حتى يَبْلُغَ إليه ما أُوحي إليه من الغيب، كأنّهم شبه اتصالهم به وحراستهم إياه بشيء داخل في أجزاء جسم. وهذا من جملة الحفظ الذي حفظ الله به ذكره في قوله: {إنا نحن نزلنا الذّكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]. والمراد ب {مِن بين يديه ومن خلفه} الكناية عن جميع الجهات، ومن تلك الكناية ينتقل إلى كناية أخرى عن السلامة من التغيير والتحريف. والرصد: اسم جمع كما تقدم آنفاً في قوله: {يجد له شهاباً رصداً} [الجن: 9]. وانتصب {رصداً} على أنه مفعول به لفعل {يسلك. ويتعلق ليعلم} بقوله: {يسلك،} أي يفعل الله ذلك ليبلّغ الغيب إلى الرسول كما أرسل إليه لا يخالطه شيء مما يلبس عليه الوحي فيعلم الله أن الرسُل أبلغوا ما أوحي إليه كما بعثَه دون تغيير، فلما كان علم الله بتبليغ الرسول الوحي مفرعاً ومسبباً عن تبليغ الوحي كما أنزل الله، جعل المُسَبب علّة وأقيم مقام السَّبب إيجازاً في الكلام لأن علم الله بذلك لا يكون إلاّ على وفق ما وقع، وهذا كقول إياس بن قبيصة: وأقبلتُ والخطّيُّ يخطِر بيننَا *** لأعلَمَ مَنْ جَبَانُها مِن شجاعها أي ليظهر من هو شجاع ومن هو جبان فأعلمَ ذلك. وهذه العلة هي المقصد الأهم من اطلاع من ارتضى من رسول على الغيب، وذكر هذه العلة لا يقتضي انحصار علل الاطلاع فيها. وجيء بضمير الإِفراد في قوله: {من بين يديه ومن خلفه} مراعاة للفظ {رَسول،} ثم جيء له بضمير الجمع في قوله: {أن قد أبلغُوا} مراعاة لمعنى رسول وهو الجنس، أي الرسل على طريقة قوله تعالى السابق آنفاً {فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} [الجن: 23]. والمراد: ليَعلم الله أن قد أبلغوا رسالات الله وأدوا الأمانة علماً يترتب عليه جزاؤهم الجزيل. وفهم من قوله: {أن قد أبلغوا رسالات ربهم} أن الغيب المتحدث عنه في هذه الآية هو الغيب المتعلق بالشريعة وأصولها من البعثثِ والجزاء، لأن الكلام المستثنى منه هو نفي علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرب ما يوعدون به أو بعده وذلك من علائق الجزاء والبعث. ويلحق به ما يوحى به إلى الأنبياء الذين ليسوا رسلاً لأن ما يوحى إليهم لا يخلو من أن يكون تأييداً لشرع سابق كأنبياء بني إسرائيل والحواريين أو أن يكون لإِصلاح أنفسهم وأهليهم مثل آدم وأيوب. واعلم أن الاستثناء من النفي ليس بمقتض أن يثبت للمستثنى جميع نقائض أحوال الحكم الذي للمستثَنى منه، بل قصارى ما يقتضيه أنه كالنقض في المناظرة يحصل بإثبات جزئي من جزئيات ما نفاه الكلام المنقوص، فليس قوله تعالى: {إلاّ من ارتضى من رسول} بمقتض أن الرسول يطلع على جميع غيب الله، وقد بين النوع المطلع عليه بقوله: {ليَعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم. وقرأ رويس عن يعقوب ليُعلم} بضم الياء وفتح اللام مبنياً للمفعول على أنّ {أنْ قد أبلغوا} نائب عن الفاعل، والفاعل المحذوف حذف للعلم به، أي ليعلَم الله أن قد أبلغوا. الواو واو الحال أو اعتراضية لأن مضمونها تذييل لجملة {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم،} أي أحاط بجميع ما لدى الرسل من تبليغ وغيره، وأحاط بكل شيء مما عدا ذلك، فقوله: {وأحاط بما لديهم} تعميم بعد تخصيص ما قبله بعلمِه بتبليغهم ما أرسل إليهم، وقوله: {وأحصى كل شيء عدداً} تعميم أشمل بعد تعميممٍ مَّا. وعبر عن العلم بالإِحصاء على طريق الاستعارة تشبيهاً لعلم الأشياء بمعرفة الأعداد لأن معرفة الأعداد أقوى، وقوله: {عدداً} ترشيح للاستعارة. والعدد: بالفك اسم لمعدود وبالإدغام مصدر عَدّ، فالمعنى هنا: وأحصى كل شيء معدوداً، وهو نصب على الحال، بخلاف قوله تعالى: {وعدَّهم عَدَّا} [مريم: 94]. وفرق العرب بين المصدر والمفعول لأن المفعول أوغل في الاسمية من المصدر فهو أبعد عن الإِدغام لأن الأصل في الإِدغام للأفعال.
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4)} افتتاح الكلام بالنداء إذا كان المخاطب واحداً ولم يكن بعيداً يدل على الاعتناء بما سيلقى إلى المخاطب من كلام. والأصل في النداء أن يكون باسم المنادَى العلم إذا كان معروفاً عند المتكلم فلا يعدل من الاسم العلم إلى غيره من وصف أو إضافة إلاّ لغرض يقصده البلغاء من تعظيم وتكريم نحو {يا أيها النبي} [الأنفال: 65]، أو تلطف وتقرب نحو: يا بُنيِّ ويا أبتتِ، أو قصد تهكم نحو: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الحجر: 6] فإذا نودي المنادى بوصف هيئته من لِبسة أو جِلسة أو ضِجعة كان المقصود في الغالب التلطف به والتحبب إليه ولهيئته، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب وقد وجده مضطجعاً في المسجد وقد علق تراب المسجد بجنبه «قُم أَبا تراب» وقوله لحذيفة بن اليمان يوم الخندق «قم يا نَوْمانُ»، وقولِه لعَبْد الرحمان بن صخر الدوسي وقد رءاه حاملاً هِرّة صَغيرةً في كمه «يا أبا هُريرة». فنداء النبي ب {يا أيها المزمل} نداء تلطف وارتفاق ومثله قوله تعالى: {يا أيها المدثر} [المدثر: 1]. و {المزمل}: اسم فاعل من تزمل، إذا تلفف بثوبه كالمقرور، أو مريد النوم وهو مثل التدثر في مآل المعنى وإن كان بينهما اختلاف في أصل الاشتقاق فالتزمل مشتق من معنى التلفف، والتدثُر مشتق من معنى اتخاذ الدثار للتدفؤ. وأصل التزمل مشتق من الزَّمْل بفتح فسكون وهو الإِخفاء ولا يعرف ل (تزمَّل) فعل مجرد في معناه فهو من التفعل الذي تنوسي منه معنى التكلف للفعل، وأريد في إطلاقه معنى شدة التلبس، وكثر مثل هذا في الاشتمال على اللباس، فمنه التزمل ومنه التعَمّم والتأزّر والتقمّص، وربما صَاغوا له صيغة الافتعال مثل: ارتَدى وائتزر. وأصل {المزمل}: المتزمل، أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زاياً لتقاربهما. وهذا التزمل الذي أشارت إليه الآية قال الزهري وجمهور المفسرين: إنه التزمل الذي جرى في قول النبي صلى الله عليه وسلم «زَمِّلُوني زَمِّلُوني» حين نزل من غار حراء بعد أن نزل عليه {اقرأ باسم ربك} [العلق: 1] الآيات كما في حديث عروة عن عائشة في كتاب بدء الوحي من «صحيح البخاري» وإن لم يذكر في ذلك الحديث نزول هذه السورة حينئذٍ، وعليه فهو حقيقة. وقيل: هو ما في حديث جابر بن عبد الله قال: «لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سَمُّوا هذا الرجل اسماً تصدر الناس عنه (أي صِفوه وصفاً تتفق عليه الناس) فقالوا: كاهن، وقالوا: مجنون، وقالوا: ساحر، فصدر المشركون على وصفه ب (ساحر) فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن وتزمل في ثيابه وتدثر، فأتاه جبريل فقال: {يا أيها المزمل} {يا أيها المدثر} [المدثر: 1]. وسيأتي في سورة المدثر أن سبب نزولها رؤيتُه المَلكَ جالساً على كرسي بين السماء والأرض فرجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال: «دثروني»، فيتعين أن سبب ندائه ب {يا أيها المزمل} كان عند قوله: «زَمِّلِوني»، فذلك عندما اغتمّ من وصف المشركين إياه بالجنون وأن ذلك غير سبب ندائه ب {يا أيها المدثر في سورة المدثر. وقيل: هو تزمُّل للاستعداد للصلاة فنودي يا أيها المزمل قم اللّيل إلاّ قليلاً} وهذا مروي عن قتادة. وقريب منه عن الضحاك وهي أقوال متقاربة. ومحملها على أن التزمُّل حقيقة، وقال عكرمة: معناه زُمِّلْتَ هذا الأمر فقم به، يريد أمر النبوءة فيكون قوله: {الليل إلاّ قليلاً} مع قوله: {إن لك في النهار سبحاً طويلاً} [المزمل: 7] تحريضاً على استفراغ جهده في القيام بأمر التبليغ في جميع الأزمان من ليل ونهار إلاّ قليلاً من الليل وهو ما يضطر إليه من الهجوع فيه. ومحمل التزمل عنده على المجاز. فإذا كانت سورة المزمل قد أنزلت قبل سورة المدثر كان ذلك دالاً على أن الله تعالى بعد أن ابتدأ رسوله بالوحي بصدر سورة {اقرأ باسم ربك} [العلق: 1] ثم أنزل عليه سورة القلم لدحض مقالة المشركين فيه التي دبرها الوليد بن المغيرة أن يقولوا: إنه مجنون. أنزل عليه التلطف به على تزمله بثيابه لما اعتراه من الحزن من قول المشركين فأمره الله بأن يدفع ذلك عنه بقيام الليل، ثم فتر الوحي فلما رأى المَلَكَ الذي أرسل إليه بحِراء تدثر من شدة وقع تلك الرؤية فأنزل عليه {يا أيها المدثر. فنداء النبي بوصف المزمل} باعتبار حالته وقت ندائه وَليس المزمل معدوداً من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم قال السهيلي: ولم يعرف به وذهب بعض الناس إلى عدّه من أسمائه. وفعل {قم} مُنزل منزلة اللازم فلا يحتاج إلى تقدير متعلق لأن القيام مراد به الصلاة، فهذا قيام مغاير للقيام المأمور به في سورة المدثر بقوله {قم فأنذر} [المدثر: 2] فإن ذلك بمعنى الشروع كما يأتي هنالك. و {الليل}: زمن الظلمة من بعد العشاء إلى الفجر. وانتصب {الليل} على الظرفية فاقتضى الأمر بالصلاة في جميع وقت الليل، ويعلم استثناء أوقات قضاء الضرورات من إغفاء بالنوم ونحوه من ضرورات الإِنسان. وقيام الليل لقب في اصطلاح القرآن والسنة للصلاة فيه ما عدا صلاتي المغرب والعشاء ورواتبهما. وأمْر الرسول بقيام الليل أمْر إيجاب وهو خاص به لأن الخطاب موجه إليه وحده مثل السور التي سبقت نزولَ هذه السورة، وأما قيام الليل للمسلمين فهم اقتدوا فيه بالرسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم إلى قوله: وطائفة من الذين معك} [المزمل: 20] الآيات قال الجمهور وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس في أوقات النهار والليل ولعل حكمة هذا القيام الذي فرض على الرسول صلى الله عليه وسلم في صدر رسالته هو أن تزداد به سريرته زكاء يقوي استعداده لتلقي الوحي حتى لا يحرجه الوحي كما ضغطه عند نزوله كما ورد في حديث البخاري: " فغطني حتى بلغ مني الجَهد " ثم قال: {اقرأ باسم ربّك} [العلق: 1] الحديث، ويدل لهذه الحكمة قوله تعالى عقبه: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5]. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء قبيل بعثته بإلهام من الله تعالى، فالذي ألهمه ذلك قبل أن يوحي إليه يجدر بأن يأمره به بعد أن أوحى إليه فلا يبقى فترة من الزمن غير متعبد لعبادة، ولهذا نرجح أن قيام الليل فرض عليه قبل فرض الصلوات الخمس عليه وعلى الأمة. وقد استمر وجوب قيام الليل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلوات الخمس تعظيماً لشأنه بكثرة الإِقبال على مناجاة ربه في وقت فراغه من تبليغ الوحي وتدبير شؤون المسلمين وهو وقت الليل كما يدل عليه قوله تعالى: {ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً، أي زيادة قرب لك} وقد تقدم في سورة [الإسراء: 79]. فكان هذا حكماً خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكره الفقهاء في باب خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن واجباً على غيره ولم تفرض على المسلمين صلاة قبل الصلوات الخمس. وإنما كان المسلمون يقتدون بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرّهم على ذلك فكانوا يرونه لِزاماً عليهم، وقد أثنى الله عليهم بذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى: {تتجافى جنوبُهم عن المضاجع} [السجدة: 16]، وسيأتي ذلك عند قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} [المزمل: 20] الآية، قالت عائشة: «إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام النبي وأصحابه»، على أنه لا خلاف في رفع فرض القيام عن المسلمين. وتقرر أنه مندوب فيه. واختلف في استمرار وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم ولا طائل وراء الاستدلال على ذلك أو عدمه. وقوله: {إلاّ قليلاً} استثناء من {الليل} أي إلاّ قليلاً منه، فلم يتعلق إيجاب القيام عليه بأوقات الليل كلها. و {نصفه} بدل من {قليلاً} بدلاً مطابقاً وهو تبيين لإِجمال {قليلاً} فجعل القليل هنا النصفَ أو أقلَّ منه بقليل. وفائدة هذا الإِجمال الإِيماء إلى أن الأوْلى أن يكون القيام أكثر من مدة نصف الليل وأن جعله نصف الليل رحمة ورخصة للنبيء صلى الله عليه وسلم ويدل لذلك تعقيبُه بقوله: {أو انقص منه قليلاً} أي انقص من النصف قليلاً، فيكون زمن قيام الليل أقلّ من نصفه، وهو حينئذٍ قليل فهو رخصة في الرخصة. وقال {أو زد عليه} وهو عود إلى الترغيب في أن تكون مدة القيام أكثر من نصف الليل ولذلك لم يقيد {أو زد عليه} بمثل ما قيد به {أو انقص منه} لتكون الزيادة على النصف متسعة، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالعزيمة فقام حتى تورمت قدماه وقيل له في ذلك: «إن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر» فقال: «أفَلا أكونُ عبداً شكوراً». والتخيير المستفاد من حرف {أو} منظور فيه إلى تفاوت الليالي بالطول والقصر لأن لذلك ارتباطاً بسعة النهار للعمل ولأخذ الحظ الفائت من النوم. وبعد فذلك توسيع على النبي صلى الله عليه وسلم لرفع حرج تحديده لزمن القيام فسلك به مسلك التقريب. وجعل ابن عطية {الليل} اسم جنس يصدق على جميع الليالي، وأن المعنى: إلاّ قليلاً من الليالي، وهي الليالي التي يكون فيها عذر يمنعه من قيامها، أي هو استثناء من الليالي باعتبار جزئياتها لا باعتبار الأجزاء، ثم قال: {نصفه} إلى آخره. وتخصيص الليل بالصلاة فيه لأنه وقتُ النوم عادة فأُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقيام فيه زيادة في إشغال أوقاته بالإِقبال على مناجاة الله: ولأن الليل وقت سكون الأصوات واشتغال الناس فتكون نفس القائم فيه أقوى استعداداً لتلقي الفيض الرباني. يجوز أن يكون متعلقاً بقيام الليل، أي رتل قراءتك في القيام. ويجوز أن يكون أمراً مستقلاً بكيفية قراءة القرآن جرى ذكره بمناسبة الأمر بقيام الليل، وهذا أولى لأن القراءة في الصلاة تدخل في ذلك. وقد كان نزول هذه السورة في أول العهد بنزول القرآن فكان جملة القرآن حين نزول هذه السورة سورتين أو ثلاثَ سور بناء على أصح الأقوال في أن هذا المقدار من السورة مكي، وفي أن هذه السورة من أوائل السور، وهذا مما أشعر به قوله: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5] أي سنوحي إليك قرآناً. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن بمهل وتبيين. والترتيل: جعل الشيء مرتَّلاً، أي مفرقاً، وأصله من قولهم: ثَغْر مرتَّل، وهو المفلج الأسنان، أي المفرق بين أسنانه تفرقاً قليلاً بحيث لا تكون النواجذ متلاصقة. وأريد بترتيل القرآن ترتيل قراءته، أي التمهل في النطق بحروف القرآن حتى تخرج من الفم واضحةً مع إشباع الحركات التي تستحق الإِشباع. ووصَفَتْ عائشة الترتيل فقالت: «لو أراد السامع أن يعُد حروفه لعدها لا كسَرْدِكم هذا». وفائدة هذا أن يرسخ حفظه ويتلقاه السامعون فيعلَقُ بحوافظهم، ويتدبر قارئه وسامعه معانيَه كي لا يسبق لفظُ اللسان عملَ الفهم. قال قائل لعبد الله بن مسعود: قرأت المفصل في ليلة فقال عبد الله: «هَذًّا كهَذًّ الشعر» لأنهم كانوا إذا أنشدوا القصيدة أسرعوا ليظهر مِيزان بَحرها، وتتعاقب قوافيها على الأسماع. والهذُّ إسراع القطع. وأكد هذا الأمر بالمفعول المطلق لإِفادة تحقيق صفة الترتيل. وقرأ الجمهور {أو انقص} بضم الواو للتخلص من التقاء الساكنين عند سقوط همزة الوصل، حركوا الواو بضمّة لمناسبة ضمة قاف {انقص} بعدها. وقرأه حمزة وعاصم بكسر الواو على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين. ووقع في قوله تعالى: {أو زِدْ عليه ورتل القرآن} إذا (شبعت) فتحة نون القرآن محسِّن الاتِّزان بأن يكون مصراعاً من بحر الكامل أحَذَّ دخَله الإِضمار مرتين.
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} تعليل للأَمر بقيام الليل وقع اعتراضاً بين جملة {قم الليل} [المزمل: 2] وجملة {إن ناشئة الليل هي أشد وطْأً} [المزمل: 6]، وهو جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لحكمة الأمر بقيام الليل بأنها تهيئةُ نفس النبي صلى الله عليه وسلم ليحمل شدة الوحي، وفي هذا إيماء إلى أن الله يَسَّر عليه ذلك كما قال تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه} [القيامة: 17]، فتلك مناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة {قم الليل إلاّ قليلاً} [المزمل: 2] فهذا إشعار بأن نزول هذه الآية كان في أول عهد النبي صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن فلما قال له: {ورتل القرءان ترتيلا} [المزمل: 4] أعقب ببيان علة الأمر بترتيل القرآن. والقول الثقيل هو القرآن وإلقاؤه عليه: إبلاغه له بطريق الوحي بواسطة الملَك. وحقيقة الإِلقاء: رمي الشيء من اليد إلى الأرض وطرحه، ويقال: شيء لَقى، أي مطروح، استعير الإِلقاء للإِبلاغ دفعة على غير ترقب. والثقل الموصوف به القول ثقل مجازي لا محالة، مستعار لصعوبة حفظه لاشتماله على معان ليست من معتاد ما يجول في مدارك قومه فيكون حفظ ذلك القول عسيراً على الرسول الأمّي تنوء الطاقة عن تلقّيه. وأشعر قوله: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} أن ثقله متعلق ابتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم لقوله قبله: {إنا سنلقي عليك} وهو ثقل مجازي في جميع اعتباراته وهو ثقيل صعب تلقيه ممن أنزل عليه. قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربَّد له جِلده " (أي تغير بمثل القشعريرة) وقالت عائشة: «رأتُهُ ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفَضُّ عرقاً». ويستعار ثقل القول لاشتماله على معان وافرة يحتاج العلم بها لدقة النظر وذلك بكمال هديه ووفرة معانيه. قال الفراء: «ثقيلاً ليس بالكلام السفساف». وحسبك أنه حوى من المعارف والعلوم ما لا يفي العقل بالإِحاطة به فكم غاصت فيه أفهام العلماء من فقهاء ومتكلمين وبلغاء ولغويين وحكماء فشابه الشيء الثقيل في أنه لا يقوى الواحد على الاستقلال بمعانيه. وتأكيد هذا الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به وإشعار الرسول صلى الله عليه وسلم بتأكيد قربه واستمراره، ليكون وروده أسهل عليه من ورود الأمر المفاجئ.
{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)} تعليل لتخصيص زمن الليل بالقيام فيه فهي مرتبطة بجملة {قم الليل} [المزمل: 2]، أي قم الليل لأن ناشئته أشد وطْأً وأقوم قيلا. والمعنى: أن في قيام الليل تزكية وتصفية لسرّك وارتقاء بك إلى المراقي الملكية. و {ناشئة} وصف من النشء وهو الحدوث. وقد جرى هذا الوصف هنا على غير موصوف، وأضيف إلى الليل إضافة على معنى (في) مثل «مَكَر الليل»، وجعل من أقوم القيل، فعُلم أن فيه قولاً وقد سبقه الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن، فتعين أن موصوفه المحذوف هو صلاة، أي الصلاة الناشئة في الليل، فإن الصلاة تشتمل على أفعال وأقوال وهي قيام. ووصف الصلاة بالناشئة لأنها أنشأها المصلي فنشأت بعدَ هدأة الليل فأشبهت السحابة التي تتنشأ من الأفق بعد صحو، وإذا كانت الصلاة بعد نوم فمعنى النشْء فيها أقوى، ولذلك فسرتها عائشة بالقيام بعد النوم، وفسر ابن عباس {ناشئة الليل} بصلاة الليل كلها. واختاره مالك. وعن علي بن الحسين: أنها ما بين المغرب والعشاء. وعن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير: أن أصل هذا معرب عن الحبشة، وقد عدها السبكي في «منظومته» في معربات القرآن. وإيثار لفظ {ناشئة} في هذه الآية دون غيره من نحو: قيامَ أو تَهَجُدَ، لأجل ما يحتمله من هذه المعاني ليأخذ الناس فيه بالاجتهاد. وقرأ جمهور العشرة {وَطأً} بفتح الواو وسكون الطاء بعدها همزة، والوطء: أصله وضع الرجل على الأرض، وهو هنا مستعار لمعنى يناسب أن يكون شأناً للظلام بالليل، فيجوز أن يكون الوطء استعير لفعل من أفعال المصلي على نحو إسناد المصدر إلى فاعله، أي وَاطِئاً أنتَ، فهو مستعار لتمكن المصلي من الصلاة في الليل بتفرغه لها وهدوء باله من الأشغال النهارية تمكّن الواطئ على الأرض فهو أمكن للفعل. والمعنى: أشد وقعاً، وبهذا فسره جابر بن زيد والضحاك وقاله الفراء. ويجوز أن يكون الوطء مستعاراً لحالة صلاة الليل وأثرها في المصلي، أي أشد أثر خير في نفسه وأرسخ خيراً وثواباً، وبهذا فسره قتادة. وقرأه ابن عامر وأبو عمرو وحده {وِطاءً} بكسر الواو وفتح الطاء ومدها مصدر وَاطَأ من مادة الفعال. والوِطاء: الوفاق والملاءمة، قال تعالى: {ليواطئوا عدة ما حرم الله} [التوبة: 37]. والمعنى: أن صلاة الليل أوفق بالمصلي بين اللسان والقلب، أي بين النطق بالألفاظ وتفهم معانيها للهدوء الذي يحصل في الليل وانقطاع الشواغل وبحاصل هذا فسر مجاهد. وضمير {هي} ضمير فصل، وانظر ما سيأتي عند قوله تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً} [المزمل: 20] في وقوع ضمير الفصل بين معرفة واسم تفضيل. وضمير الفصل هنا لتقوية الحكم لا للحصر. والأقوم: الأفضل في التقوي الذي هو عدم الاعوجاح والالتواء واستعير {أقوم} للأفضل الأنفع. و {قيلاً}: القَول، وأريد به قراءة القرآن لتقدم قوله: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5]. فالمعنى: أن صلاة الليل أعون على تذكر القرآن والسلامة من نسيان بعض الآيات، وأعون على المزيد من التدبر. قال ابن عباس: {وأقوم قيلاً}: أدنى من أن يفقهوا القرآن. وقال قتادة: أحفظ للقراءة، وقال ابن زيد: أقوم قراءة لفراغه من الدنيا. وانتصب {وطْأً} و{قيلاً} نسبة تمييزي ل {أشد} ول {أقوم}.
{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)} فصل هذه الجملة دون عطف على ما قبلها يقتضي أن مضمونها ليس من جنس حكم ما قبلها، فليس المقصود تعيين صلاة النهار إذ لم تكن الصلوات الخمس قد فرضت يومئذٍ على المشهور، ولم يفرض حينئذٍ إلاّ قيام الليل. فالذي يبدو أن موقع هذه الجملة موقع العلة لشيء مما في جملة {إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً} [المزمل: 6] وذلك دائر: بين أن يكون تعليلاً لاختيار الليل لفرض القيام عليه فِيه، فيفيد تأكيداً للمحافظة على قيام الليل لأن النهار لا يغني غَناءه فيتحصل من المعنى: قم الليل لأن قيامه أشد وقعاً وأرسخ قولاً، لأن النهار زمن فيه شغل عظيم لا يترك لك خلوة بنفسك. وشغل النبي صلى الله عليه وسلم في النهار بالدعوة إلى الله وإبلاغ القرآن وتعليم الدين ومحاجة المشركين وافتقادَ المؤمنين المستضعفين، فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل، وبيْن أن يكون تلطفاً واعتذاراً عن تكليفه بقيام الليل، وفيه إرشاد إلى أن النهار ظرف واسع لإِيقاع ما عسى أن يكلفه فيامُ الليل من فتور بالنهار لينام بعض النهار وليقوم بمهامه فيه. ويجوز أن يكون تعليلاً لما تضمنه {أو انقص منه قليلاً} [المزمل: 3]، أي إن نقصتَ من نصف الليل شيئاً لا يَفُتْكَ ثواب عمله، فإن لك في النهار متسعاً للقيام والتلاوة مثل قوله تعالى: {وهو الذي جعل الليلَ والنهارَ خلفة لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شُكوراً} [الفرقان: 62]. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في النهار من أول البعثة قبل فرض الصلوات الخمس كما دل عليه قوله تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلّى} [العلق: 9، 10]. وقد تقدم في سورة الجن أن استماعهم القرآن كان في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في نخلة في طريقهم إلى عكاظ. ويظهر أن يكون كل هذا مقصوداً لأنه مما تسمح به دلالة كلمة {سبحاً طويلاً} وهي من بليغ الإِيجاز. والسبح: أصله العوم، أي السلوك بالجسم في ماء كثير، وهو مستعار هنا للتصرف السهل المتسع الذي يشبه حركة السابح في الماء فإنه لا يعترضه ما يعوق جولانه على وجه الماء ولا إعياءُ السير في الأرض. وقريب من هذه الاستعارة استعارة السبح لجري الفرس دون كلفة في وصف امرئ القيس الخيل بالسابحات في قوله في مَدح فرسه: مُسحَ إذا ما السابحات على الوَنى *** أثْرْنَ الغُبار في الكَديد المركَّل فعبر عن الجاريات بالسابحات. وفسر ابن عباس السبح بالفراغ، أي لينام في النهار، وقال ابن وهب عن ابن زيد قال: فراغاً طويلاً لحوائجك فافرغ لدينك بالليل. والطويل: وصف من الطول، وهو ازدياد امتداد القامة أو الطريق أو الثوب على مقاديرِ أكثرِ أمثاله. فالطول من صفات الذوات، وشاع وصف الزمان به يقال: ليل طويل وفي الحديث «الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه» وأما وصف السَّبح ب (طويل) في هذه الآية فهو مجاز عقلي لأن الطويل هو مكان السبح وهو الماء المسبوح فيه. وبعدَ هذا ففي قوله {طويلاً} ترشيح لاستعارة السَّبح للعمل في النهار.
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} عطف على {قم الليل} [المزمل: 2] وقصد بإطلاق الأمر عن تعيين زمان إلى إفادة تعميمه، أي اذكر اسم ربك في الليل وفي النهار كقوله: {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً} [الإنسان: 25]. وإقحام كلمة {اسم} لأن المأمور به ذكر اللسان وهو جامع للتذكر بالعقل لأن الألفاظ تجري على حسب ما في النفس، ألا ترى إلى قوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول} [الأعراف: 205]. والتبتل: شدة البتل، وهو مصدر تبتّل القاصر الذي هو مطاوع بَتَّله ف {تبتل} وهو هنا للمطاوعة المجازية يقصد من صيغتها المبالغة في حصول الفعل حتّى كأنه فعله غيره به فَطاوعه، والتبتل: الانقطاع وهو هنا انقطاع مجازي، أي تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله، فكأنه انقطع عن الناس وانحاز إلى جانب الله فعدي ب «إلى» الدالة على الانتهاء، قال امرؤ القيس: منارة مُمْسى راهب متَبَتِّل *** والتبتيل: مصدر بتَّل المشدد الذي هو فعل متعد مثل التّقطيع. وجيء بهذا المصدر عوضاً عن التبتل للإِشارة إلى أن حُصول التبتل، أي الانقطاع يقتضي التبتيل أي القطْع. ولما كان التبتيل قائماً بالمتبتل تعين أن تبتيله قطعه نفسه عن غير من تبتل هو إليه فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى فالجمع بين {تبتل} و{تبتيلاً} مشير إلى إراضة النفس على ذلك التبتل. وفيه مع ذلك وفاء بِرعي الفواصل التي قبله. والمراد بالانقطاع المأمور به انقطاع خاص وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمنعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجّة المشركين ولذلك قيل {وتبتل إليه} أي إلى الله فكل عمل يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال الحياة فهو لدين الله فإن طعامه وشرابه ونومه وشؤونه للاستعانة على نشر دين الله. وكذلك منعشات الروح البريئة من الإِثم مثل الطِّيب، وتزوج النساء، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه، وقد قال: «حُبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب». وليس هو التبتل المفضي إلى الرهبانية وهو الإِعراض عن النساء وعن تدبير أمور الحياة لأن ذلك لا يلاقي صفة الرسالة. وفي حديث سعْد في «الصحيح» «ردّ رسول الله على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذِن له لاختصينا» يعني ردّ عليه استشارته في الإِعراض عن النساء. ومن أكبر التبتل إلى الله الانقطاع عن الإِشراك، وهو معنى الحنيفيّة، ولذلك عقب قوله: {وتبتل إليه تبتيلاً} بقوله: {ربّ المشرق والمغرب لا إله إلاّ هو}. وخلاصة المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور أن لا تخلو أوقاته عن إقبال على عبادة الله ومراقبته والانقطاع للدعوة لدين الحق، وإذ قد كان النبي صلى الله عليه وسلم من قبلُ غير غافل عن هذا الانقطاع بإرشاد من الله كما ألهمه التحنّث في غار حراء ثم بما أفاضه عليه من الوحي والرسالة. فالأمر في قوله: {واذكر اسم ربّك وتبتّل إليه} مراد به الدوام على ذلك فإنه قد كان يذكر الله فيما قبل فإن في سورة القلم (51) (وقد نزلت قبل المزمل) {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر} على أن القرآن الذي أنزل أولاً أكثره إرشاد للنبي صلى الله عليه وسلم إلى طرائق دعوة الرسالة فلذلك كان غالب ما في هذه السورِ الأوللِ منه مقتصراً على سَن التكاليف الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم ووصف الله بأنه {ربّ المشرق والمغرب} لمناسبة الأمر بذكره في الليل وذكرِه في النهار وهما وقتا ابتداء غياب الشمس وطلوعها، وذلك يشعر بامتداد كل زمان منهما إلى أن يأتي ضده؛ فيصح أن يكون المشرق والمغرب جهتي الشروق والغروب، فيكون لاستيعاب جهات الأرض، أي رب جميع العالم وذلك يشعر بوقتي الشروق والغروب. ويصح أن يراد بهما وقتا الشروق والغروب، أي مبدأ ذينك الوقتين ومُنتهاهما، كما يقال: سبحوا لله كلَّ مشرق شمس، وكما يقال: صلاة المغرب. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر برفع {ربُّ} على أنه خبر لمبتدأ محذوف حذفاً جرى على الاستعمال في مثله مما يسبق في الكلام حديث عنه. ثم أريد الإِخبار عنه بخبر جامع لصفاته، وهو من قبيل النعت المقطوع المرفوع بتقدير مبتدأ. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف بخفض {ربِّ} على البدل من {ربِّك}. وعُقِّب وصفُ الله ب {رب المشرق والمغرب،} بالإِخبار عنه أو بوصفه بأنه لا إله إلاّ هو لأن تفرده بالإلهية بمنزلة النتيجة لربوبية المشرق والمغرب فلما كانت ربُوبيته للعالم لا ينازع فيها المشركون أعقبت بما يقتضي إبطال دعوى المشركين تعدد الآلهة بقوله: {لا إله إلاّ هو} تعريضاً بهم في أثناء الكلام وإن كان الكلام مسوقاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فرع عليه قوله: {فاتخذه وكيلاً،} وإذ كان الأمر باتخاذ وكيلاً مسبباً عن كونه لا إله إلاّ هو كان ذلك في قوة النهي عن اتخاذ وكيل غيره، إذ ليس غيره بأهل لاتخاذه وكيلاً. والوكيل: الذي يُوكَل إليه الأمور، أي يُفوض إلى تصرفه، ومن أهم التفويض أمر الانتصار لمن توكل عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قول المشركين فيه اغتم لذلك، وقد روي أن ذلك سبب تزمله من مَوْجدة الحزن فأمره الله بأن لا يعتمد إلاّ عليه، وهذا تكفل بالنصر ولذلك عقب بقوله: {واصبر على ما يقولون} [المزمل: 10].
|